الثلاثاء، 27 مايو 2014

الصاوي مبروك يكتب من خلف القضبان  يوم ماتت "أم عمر"


كان صباحاً عادياً جديداً في السجن ، خرجتْ ساعة " التريض " ككل يومٍ أبحث عن جريدة أقرأها أو زميلاً أتحدث معه ونحن نسير فى ساحة السجن . انتهيتُُ إلى إحدى الزنازين بها بعض الأصدقاء ، جلست أتصفح الجرائد التى يسمحوا لنا بها هنا فى السجن ، تلك التى يُطلِقون عليها " جرائد قومية ". وللعلم كل الجرائد أصبحت " قومية " فى كذبها المُهذّب أحيانا والفاجر غالبا والتى تملؤها صور وأخبار " مرشح الضرورة " فى حياد إعلامى واضح!قضبان

وبينما أنا أُطالع الجريدة فجأة .. وجدت صوت من خلفى عند باب الزنزانة يُنادى عليّ ..... إلتفت

وجدته " محمود " من زنزانة " الطلبة " ، كان وجهه مُمتقعاً ومُصفرّاً ، لا أدرى لماذا انقبض قلبي ، تركت جورنال " مرشح الضرورة " ، وذهبت ... خير يا محمود ؟

بدأت عيناه تمتلئ بالدموع , تحشرج صوته وانحبس .. إنقبض قلبي أكثر ، فسألته : فيه إيه يا محمود ‍ ما تنطق!

- فأجاب " أم عُمر " يا أستاذ صاوي ...... " أم عُمر " ماتت !

- طب إزاي ؟ وفين !

- عملت حادثة وهي رايحة الجلسة ، مرضيناش نقوله إمبارح و إحنا راجعين ، وقولناله النهاردة وهو مُنهار .... تعالى شوفه.

كانت المسافة من زنزانتى إلى زنزانة " الطلبة " كافية لأن تسترجع ذاكرتى " عمر " ، تعرفت عليه عندما حاولنا نحن شباب السجن القيام " بدورة لكرة القدم ". كان " عُمر " مُشاركاً فيها ، وبحُكم أن زنزانتى بجوار زنزانته كان يسألنى عن مواعيد المُباريات والنتائج.

وجههُ طفولى مُريح , إبتسامته صافية ولا تُفارق وجهه النحيل وهو الطالب بالفرقة الأولى بحقوق القاهرة ... تذكّرت حين أخبرنى أن أباه وعمّه مُعتقلان أيضاً فى سجن آخر ! قالها وهو يبتسم إبتسامة مُفتعّلة بمرارة .. أشفقت عليه كثيراً وسألته حينها عمن ورائهم بالخارج هو ووالده فأجاب بمرارة أشد " أمى" !

أحببته كثيرا ً , كان مُتماسكاً رغم صِغر سنّه وقوياً . تسائلت كثيراً لماذا لا تُثار قضية " عُمر " وزملاؤه " الطلبة " إعلامياً ؟ لماذا لا يتحدث عنهم أحد ! وقد ضاع منهم أكثر من إمتحان ومُستقبلهم مُهدّد ؟ فتذكرت أن " عُمر " إخوان ....... وإخواننا الثوار وغيرهم لا يعرفون أحداً مُعتقلاً غير " ثلاثة فقط " من أجلهم يتظاهرون ومن أجلهم يُناضلون!

وصلت إلى زنزانة " الطلبة " تلك الزنزانة التى أحبّها كثيراً , وأجلس مع أصحابها كثيرا ً .، أحببتها لأنها كانت تُمثل لي مصر الحلم .. مصر الثورة ..... مصر ميدان التحرير فى الـ 18 يوم الأولى للثورة!

" عُمر " الإخوانى بجوار " صلاح " عضو مصر القوية بجوار " بوشكاش " الإشتراكى وإلى جانبهم " وليد " الليبرالى ، أفكار واتجاهات مُختلفة لكن الكل اسمهم " طلبة " والزنزانة تُدعى " زنزانة الطلبة " ..... دائماً هتافاتهم بالليل واحدة ، دائماً يتحدثون عن حلم واحد ، تسمع منهم أغاني الشيخ إمام وتسمع منهم أيضاً الأناشيد والهتافات الثورية والكل يحفظ ، والكل يُردّد ... حالة فريدة من التوافق !

كنت أيضاً أتسائل لماذا يَفسد كل هذا عندما يعود كُلُ إلى " تنظيمه" !

لماذا تُفسِدُهم دائماً كلمات " الكِبار " فى كل تنظيم ؟

ولماذا دائماً يُحاول أولئك " الكبار " فرض مشاكلهم ورؤاهم عليهم ؟!

تسمّرت أمام الزنزانة ... نظرت إلى " عُمر " وقد دسّ رأسه بين يديه .. قابلنى " وليد " وأخبرني أني لن أستطيع التحدث معه الآن ... كان شباب السجن قد أعدّوا ساحة " التريض " كمُصلّى . فقلت " لوليد " سأذهب للساحة ونُصلّي الجنازة غائب و أقابله هناك لأُُعزّيه . في طريقي لساحة الصلاة هربت مني دمعة ... فكرت ... أمُ تموت وهى ذاهبة لإبنها المُعتقل إلى جلسته في المحكمة لتراه دقائق ... " أم عُمر " .... " أم عُمر " ؟!

نعم تذكّرتها ... رأيتها في إحدى الزيارات التي تزاملنا فيها أنا و " عُمر " . امرأة أربعينية العُمر دخلت إلى ساحة الزيارة احتضنت " عُمر " .... لا ، بل احتضنت كل جزء من أجزاء " عُمر " وكأنّها تطمئن على كل جزء من إبنها شاركت هى يوماً فى بناءه . كان يبدو عليها الإرهاق الشديد ، تذكّرت أن " عمر " قال لي أنها تذهب إلى والده المُعتقل فى سجنٍ آخر أولاً ثم تأتى إليه هنا .... يا لتلك المرأة المُجاهدة الصابرة ، يا لتحمّلِها وقوتها ... إبنها ، وزوجها ! تُرى كيف تشعر ؟ كيف تَعُدّ لهما الطعام ؟ من يُساعدها!

جالت بخاطرى كل تلك الأسئلة وهي واقفة مع " عُمر " في الزيارة وأنا أنظر إليهم من بعيد . رأيتها من بعيد ترمقنى بنظرة " أم " باسمة ... وترمق كذلك كل الشباب في قاعة الزيارة بنفس النظرة ... وكأنّها توزع علينا قليلاً من حنان " الأم " الذي نفتقده جميعنا هنا !وكأنّها احتضنتنا جميعاً , وربتت على أكتافنا قائلة اصبروا فرج الله قريب!

قرأت هذا كلّه فى نظرات عينيها ، تذكّرت " أم عُمر " إذاً .... ثُمّ .... تذكرّت أنها ماتت!

لا , بل قُتِلت ... نعم قتلوها ! قتلوها لأن ابنها وزوجها فكروا أن يعارضوا نِظاماً دموياً.

قتلوها لأنها حلِمت أن ترى إبنها، ولو لدقائق معدودة فى ساحة محكمة ! لم يسمحوا لها بهذا الحق ... عربةُ طائشة غفل عنها أمن نظام الإنقلاب الدموى لإنشغاله بالقبض على أمثال " عُمر " صدمتّها فماتت .. ماتت ومات معها حُلم أن ترى إبنها لدقائق!

قُتِلت " أم عُمر " ولم يراها " عُمر " ولا " أبو عُمر " للمرة الأخيرة قبل أن تودّع الحياة . ذلك لأن نِظاماً دموياً يرى أنهم خطر على أمنه ، واستقراره ! فلم يسمح لهم بحضور جنازتها ولا بدفنها!

قتلوا " أم عُمر " وقتلوا فينا أشياء كثيرة هنا معها .... كان مشهد صلاة جنازة الغائب عليها فى ساحة " التريض " مَهِيباً ...

أمّنّا َ " عُمر " , بكينا جميعاً ، بكينا بُكاء " العجز " ... وما أدراك ما بكاء " العجز"

حين لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى أن تبكي .... يومها تحوّل السجن كلّه إلى سُرادق عزاء كبير مُسربلاً بالحزن والصمت الذي أنهاه " عُمر " بهتافه وخلفه زُملاؤه الطلبة هتافاً زاد بُكائنا .... وعجزنا!

عزّيت " عُمر " وتساءلت في طريقي إلى زنزانتي عمن نواجه ؟ من هؤلاء ؟ هل هم حقاً بشراً ... لهم قلوب وعقول البشر!

وحينما أغلق الشاويش الزنزانة كنت أُردّد : هل هذا وطنُ حقاً ؟ هل هذا وطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

للاتصال بى

foxyform